موقــــــــع
    الدكتور جمعة محمود الزريقي


clavier arabe clavier arabe kijd clavier arabe kjd99 clavier arabeعدد الزوار

قصة حرق التسجيل العقاري سنة 1985

       كتبتها سنة 1987 عندما كنت مقيما في مدينة سلا بالمغرب الشقيق ، وأنقلها الآن كما هي دون زيادة أو نقص اللهم إلا تصحيح بعض الأخطاء أو توضيح بعض الأمور في هامش الصفحة .

الحلقة الاولى

الحلقة الثانية

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

الحلقة الخامسة

الحلقة الأخيرة

[ كتاب التوثيق العقاري في الشريعة الإسلامية ]

      هذا الكتاب الذي أعتز به وبموضوعه لأنه أول كتاب صدر لي أشاد به الأخوة في المغرب وطلبوه مني في العديد من المناسبات ، أذكر أنني شاركت في ندوة خاصة بالتوثيق في مدينة الجديدة بالمغرب في شهر ديسمبر 1986 ، فكان كتابي محور حديثهم حيث تم عرضه في المعرض الذي أقيم هناك ، وفي تلك المناسبة شاركت بمداخلة حول علم التوثيق ، كان موضوعها مستخلصا من الكتاب وأشرت لهم فيها لعلم التوثيق وتعريفه ، وكان التعريف وحده كافيا لالتفاف بعض الحضور حولي للسؤال عن المصدر الذي أخذت منه هذا التعريف ، لأنه لا يوجد في كتب المغاربة ومخطوطاتهم العديدة في علم التوثيق ، فأخبرتهم بأنني نقلته من مذكرة التوثيق للشيخ أبوبكر حمير من علماء زليطن بليبيا الذي نقله عن الشيخ عبد الفتاح القاضي من علماء مصر، فطلبوا مني نسخا من الكتاب أو إعادة طبعه في المغرب للحصول عليه ، هذا الكتاب يرمى في النار ؟.

    استدعاني أمين عدل طرابلس وأمرني بإعداد قائمة بالتعاون مع بعض المسؤولين في الأمانة ، تتضمن نقل مجموعة من العاملين بإدارة السجل العقاري بطرابلس إلى بعض الأجهزة والإدارات والمحاكم والنيابات، ليس أمامي إلا الامتثال للأمر، فأبقيت على الحد الأدنى من الموظفين في كل مكتب ، وأعدت قائمة بنقل البقية ، وصدر قرار بالنقل المؤقت ، بعدها بيومين استدعاني مرة أخرى وطلب إعداد قائمة أخرى بالبقية الباقية من الموظفين وعلى رأسهم العبد لله هكذا قال لي شخصيا ، أجبته على الفور بأنني منقول بقوة القانون قبل عملية الحرق وأنت تعلم ذلك حيث صدر قرار اللجنة الشعبية العامة بتعييني محاميا بإدارة القضايا ، وقد أقسمت اليمين أمامكم ، فقال : بلى ، قلت إذا عليّ أن أسلم ما في عهدتي وألتحق بعملي ولا داعي لصدور قرار بنقلي ، اقتنع أمين عدل طرابلس وقام بإصدار قرار بنقل بقية الموظفين لأجهزة أمانة العدل .

     قام أمين عدل طرابلس بتسليم مبنى الإدارة والمكاتب التابعة لها لبعض الأجهزة الأمنية بعد أن سيطرت عليها الشرطة لأكثر من أسبوعين تقريبا ، وقد منعت من الدخول ، وبقيت أوراقي وكتبي وأشيائي الخاصة في مكتبي لم أستطع الحصول عليها إلا بعد أن قدمت طلبا كتابيا إلى أمين عدل طرابلس الذي أشر عليه بالموافقة وتحصلت عليها بعد أن دخلت معي الشرطة وهي عبارة عن كتبي التي أستعين بها أينما أكون ، وتذكرت خروجي من بلدية طرابلس حيث أجبرت على ترك وظيفتي ، عندها استلمت كتبي بواسطة اللجنة الثورية بطرابلس، قلت في نفسي : ما أشبه الليلة بالبارحة ، لقد كتب عليّ أن أحارب دائما وفي كل مرة يفرض عليّ موقف لا أحسد عليه .

      هكذا بعد أن أجهزت اللجان الثورية على السجلات والوثائق بحرقها ، قام أمين عدل طرابلس فأجهز على البقية الباقية عليه ، حيث قام بنقل الموظفين وسلم المباني لأجهزة الشرطة ، ومبنى الإدارة لا يزال لحد الآن – حسبما أسمع – في يد الشرطة ، وتناقلت الأخبار الانجازات الأخرى في مجال التدمير حيث قضت اللجان الثورية على بقية مكاتب التسجيل العقاري بطرابلس ، وانتقلت نشوة النصر به ، فقضت جيوش اللجان الثورية في البلديات الأخرى على أعدائها من الصهاينة ،لا بل من السجلات العقارية والملفات والخرائط والمسطحات والحجج والوثائق التي كانت ضعيفة ، فهزمت المسكينة واستسلمت للنار التي لا تبقي ولا تذر، وفي كل ليلة نسمع عن وأد قمقم جديد أو أثنين من مكاتب التسجيل العقاري في البلديات ، وتنشر صور الانتصارات في التلفاز والجرائد المحلية .

     التحقت بعملي رسميا بإدارة القضايا ولكن دون مباشرة فعلية ذلك لانشغالي في لجنة إعداد تصور جديد لعمل السجل العقاري ، كانت اللجنة مشكلة برئاسة الدكتور عبد السلام المزوغي ، والدكتور خليفة القاضي ، والدكتور ساسي الحاج والفيتوري الطاهر رئيس المصلحة ، وأمين عدل الزاوية حسني الوحيشي وهو من مكتب الاتصال باللجان الثورية ، اجتمعت اللجنة عدة اجتماعات وكنت مقررا لها وكان إتجاه اللجنة الأخذ بنظام السجل الشخصي ، فعارضت هذه الفكرة لأن طريقة السجل العيني هي المثلى والأحدث ، وأعددت لهم مذكرة بالخصوص ، وافق الجميع على الأخذ بنظام السجل العيني وهو الذي كان سائدا قبل الحرق ، ثم صغت لهم النقاط التي تم استعراضها واعتمادها ، وتم تقديمها إلى أمين اللجنة الشعبية العامة للعدل .

       طلب منا التحضير لندوة تلفزيونية حول أهداف المشروع الجديد ، تهربنا منها ، فما عسانا أن نقول فيها ؟ وما هي المبررات التي نقدمها للجمهور حول عملية الحرق ؟ وهل يصدق الشعب أي تطوير أو تنظيم نقدمه ؟ ، لمدة ثلاثة أيام ونحن نتهرب وتتم ملاحقتنا من حسني الوحيشي الذي يطلب منا إقامة الندوة أو المشاركة فيها ، ولكنا نتذرع بحجج واهية ونزوغ منها ، وفي أحد أيام العطلات اتصل بي الدكتور عبد السلام المزوغي وأنا في البيت ليطلب مني الحضور عند الساعة السادسة مساء – على ما أتذكر – وذلك للمشاركة في الندوة قائلا : إن الحضور ضروري جدا وإلا لا ندرى ما يحدث لنا ؟ ! ، فهمت من حديثه أنه قد تم تهديده إذا لم يبادر بعقد الندوة .

      وافقت على الحضور تجنبا للمشاكل ، وفي الموعد المحدد كنت في مبنى الإذاعة بشارع الشط لتسجيل الندوة المتلفزة ، وأوضحت لهم موقفي قبل التسجيل ذلك أنني لن أتعرض لعملية الحرق ، بل سوف أتناول تاريخ السجل العقاري منذ نشأته فقط ، وافق الحاضرون ، وتم توزيع الأدوار ، المقدمة التاريخية تكون لي الدكتور خليفة القاضي النظام القانوني للتسجيل والتوثيق ، الدكتور المزوغي لشرح التنظيمات الجديدة المقترحة ، وحسني الوحيشي مدير الندوة ، وشاب آخر لا أذكر اسمه من مكتب اللجان الثورية تولى مهمة الفقه الثوري ، لم يتم التسجيل في مبنى الإذاعة بشارع الشط فانتقلنا إلى المبنى الجديد في شارع النصر حيث توجد غرف تسجيل جديدة ، وأخذ كل واحد منا مكانه أمام أجهزة التصوير.

         

[ تسجيل ندوة مرئية حول حرق السجل العقاري ] 

      بدأ مقدم الندوة ( حسني الوحيشي ) الحديث عن موضوعها ، ثم بدأت الحوار بإعطاء مقدمة عن نشأة السجل العقاري في ليبيا منذ العهد العثماني ، ثم النظام الذي أحضره الايطاليون ، وهو نظام تورنس المشتق من النظام الاسترالي الذي يأخذ بطريقة السجل العيني في تسجيل العقارات ، وقيام إيطاليا بتسجيل عقارات المجاهدين والمواطنين الليبيين باسمها ، أي نقل ملكتها للدولة الايطالية حيث استمرت بعض الملكيات بأسماء بعض الإيطاليين إلى ما بعد قيام الثورة ، ثم صدر قانون استرداد الشعب لأمواله المغصوبة، وبموجب ذلك أعيدت تلك الأملاك للدولة الليبية ، انتهى كلامي إلى هذا الحد ، وهو عبارة عن سرد تاريخي ليس إلا .

     قدم الأخ حسني الدكتور عبد السلام المزوغي الذي بدأ حديثه بانتقاد عملية الحرق للسجل العقاري ، وقال : إن ما حدث كان يجب إشراك الشعب فيه ، وكان من الواجب عرض الأمر على المؤتمرات الشعبية قبل الإقدام على ذلك ، ثم شرح كيف يكون التسجيل المقبل على ضوء اقتراحات اللجنة التي قدمتها ، بعد ذلك أدلى الدكتور خليفة القاضي ببعض الشروح حول الإجراءات الخاصة بالتسجيل والأنظمة العقارية ، ثم تناول ذلك الشاب الموضوع حيث صب جام غضبه على أجهزة التسجيل العقاري متهما إياها بالبرجوازية والتخلف والتعفن وعرقلة المبادئ الثورية ، لذلك فمن الواجب نسفه من أساسه بعملية الحرق والبدء بتسجيلات جديدة حيث يتم تسجيل كل عقار لمن يقوم بشغله حاليا . بعد أن انتهى التسجيل المرئي ، انتقد الأخ حسني الدكتور المزوغي على ذلك النقد وطلب من مسؤولي الإذاعة إجراء دبلجة للشريط بحيث تحذف منه تلك العبارات ، ولكن يظهر أن كل ما جاء في الشريط لم يعجبهم ، ذلك أن حديثي كان من الناحية التاريخية ، وهي تعطي قيمة للوثائق مما يدل على أن حرقها كان حلا غير مرغوب فيه ، وذلك يسبب الحنق على الحرق بدلا من الرضا ، وكذلك حديث بقية الأخوة ، فإذا أذيعت تلك الندوة فإنها تعطي صورة حقيقية عن الوضع في ليبيا حيث تختلف العناصر المتعلمة الواعية مع العناصر التي تقود الوضع وتسيطر على البلاد وهم اللجان الثورية ، لذلك لم تذع تلك الندوة على المواطنين وحفظ الشريط في أروقة الإذاعة .

     اعتقدت بعد ذلك بأن علاقتي بالتسجيل العقاري قد انتهت ، فقد ساهمت في وضع اقتراحات جدية كفيلة بإعادة الوضع كما كان عليه ، وكان بإمكاني لو بقيت الإدارة ومكاتبها أن أستحدث نظاما يقلل من وطأة الحرق ، ذلك لأن القروض السكنية قد توقفت ، وعملية شطب الرهون كذلك نتيجة حرق السجلات ، واتصل بي بعض المصارف للاستفسار عن كيفية منح القروض ، فطلبت منهم التريث لأن الاستفسار كان عقب الحرق مباشرة ، وكانت الإدارة توثق عقود القروض للمواطنين في طرابلس والبلديات القريبة منها ، من الحدود التونسية إلى مصراتة وبلديات الجبل الغربي ، فكرت في إمكانية إبرام عقود يمكن تحميلها فيما بعد في السجلات العقارية ، يتم بموجبها منح القروض على أن يسبق ذلك فتح ملفات مؤقتة للعقار وصاحبه ، وهي طريقة لا تخالف القانون ويمكن من خلالها تيسير عملية الإقراض . لم ينفذ هذا الاقتراح لأن أمين اللجنة الشعبية للعدل ببلدية طرابلس لم يترك لنا الفرصة حيث قام بالإجهاز على الإدارة من موظفين ومبان وبالتالي أصبحنا في أماكن ووظائف أخرى ، وتصرف أمين عدل طرابلس لم أفهمه لحد الآن ولا أعتقد أنه من المتشنجين العشوائيين ، فهو رجل متعلم يحمل الدكتوراه في القانون وأستاذ بكلية الحقوق ، فما الذي يجعله يقدم على ذلك الإجراء الذي لا يتفق مع الأسلوب الإداري السليم ؟ ، اللهم إلا إذا جاءته تعليمات من جهة أعلى فيخاف على نفسه من معارضتها مثل مكتب اللجان الثورية ، لأن أمين اللجنة الشعبية العامة للعدل الأستاذ مفتاح كعيبة لم يصدر مثل هذه التعليمات ، فلو أصدرها لأعلمني بها ! ! . إن التفسير الذي أرجحه هو أن الدكتور ميلود المهذبي يلومني على الاتصال مباشرة بأمين اللجنة الشعبية العامة للعدل دون المرور عليه ، وأنه يلومني أيضا في عدم إعلامه بالإجراءات التي اتخذت قبل حرق السجل ، ومن ضمنها قال لي : إنه لو شارك في إعداد المذكرة التي رفعت للقيادة لما تم الحرق ، والحقيقة أنني لا استحق هذا اللوم ، ذلك أن المذكرة أعدت في نوفمبر 1984 م ، وهو آنذاك لم يكن أمينا للعدل بطرابلس ، بل كان الأمين الصويعي ، فهو غير موجود في ذلك التاريخ ، وقد حضر المناقشات عضو آخر من اللجنة . أما عن المذكرة التي أعدت قبل الحرق بيوم ، فقد استدعيت على عجل من مصراتة ، ومن ثم سهرنا ليلة السبت لإعدادها في منزل الأستاذ كعيبة ، وفي الصباح طبعناها وذهبنا إلى مقر مؤتمر الشعب العام حيث تم تعديلها وانطلقت بها إلى القيادة ، ولم أخبر أمين عدل طرابلس بها لأن الأمور كانت تسير على عجل كما أنني كنت مرهقا ، ولم أكن أتوقع أن الحرق سيشرع فيه بعد ساعات وإلا كنت اتصلت به هاتفيا على الأقل، فأجلت أمر العلم أو إعلامه إلى الغد ، فكان الغد موعدا للطامة الكبرى ( أي حرق السجل العقاري ).

     رضيت على كل حال بواقع الأمر ، ورب ضارة نافعة ، فغلق الإدارة ساعدني على التوكل على الله ، والشروع في الحصول على قرار إيفاد للدراسة بالمغرب ، وكنت أنهيت قبولي وتم نقلي قانونا إلى إدارة القضايا وقدمت طبا للتفرغ للدراسة قبل واقعة الحرق ، وقد ساعدني الأستاذ مفتاح كعيبة وغيره من المسؤولين على ذلك، وأخذت إجازة من العمل بإدارة القضايا تمكنت خلالها من القيام بالمراجعة المستمرة والسعي لدى الجهات المختصة إلى أن صدر قرار الإيفاد للدراسة في 22 يناير 1986 ومنذ ذلك التاريخ بدأت في الاستعداد للسفر واستخراج جوازات السفر اللازمة لأسرتي وإحضار ملفاتهم من المدارس والاتصال بالصديق الأستاذ علي بالوص لاستئجار مسكن بحي السلام في مدينة سلا بالمغرب حيث يقيم هو ، وقد تم الأمر بعون الله .

  

  [ بدء التحقيق في عملية حرق السجلات العقارية ]

     لا بد لي من ذكر حادثة وقعت لي قبل السفر ، وهي إجراء التحقيق في عملية حرق السجل العقاري ، وقد جرت قبل سفري إلى المغرب ، فبعد صدور قرار الإيفاد أخذت في ترتيب إجراءات السفر، وأقوم يوميا بذلك، استدعيت في أحد الأيام من قبل أمين عدل طرابلس صحبة الأستاذ محمد الديب رئيس مكتب الغزالة فأبلغنا خلال المقابلة أن تحقيقا سيجرى معنا من قبل لجنة مشكلة برئاسة أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة ، وهو العميد مصطفى الخروبي ، فأوجست خيفة من ذلك ، فقد يأخذ التحقيق وقتا طويلا فتضيع فرصة الدراسة العليا ، كما أنني استغربت الأمر ، فكيف يتم إتلاف السجل العقاري ثم يحققون في إعدامه ، إنه شيء عجيب حقا ، لكن الأخ محمد الديب ، وهو يصغرني سنا والأحدث تخرجا مني ، ولكنه كان أكثر فطنة ، فقد قال لي : من خلال قراءاتي عن الثورة المصرية أعلم بأن التحقيق في مثل هذه الحوادث لن يكون إلا للجانب الأمني فقط أي أن التحقيق سيكون لغرض البحث في مدى سلامة ودقة أجهزة الأمن ، هل باستطاعتها اكتشاف مثل هذه الأمور أم لا ؟ ولن يكون غرض التحقيق معرفة المجرم ومعاقبته ، لأن الفاعل هو المحقق في الواقع أو من يناصره . لم أقتنع بكلامه في بادئ الأمر ، وأخذ القلق يساورني كلما اقترب موعد المقابلة مع السيد العميد ، وحضرنا في الموعد المحدد وبعد إجراءات الأمن اللازمة في مثل هذه الأماكن ، أدخلت صحبة الأخ محمد الديب على العميد مصطفى الخروبي ، استقبلنا بحرارة ، وكان بصحبته المستشار القانوني محمد الخضار والمقدم منير العروسي على ما أذكر ، ذكر لنا السيد العميد الهدف من الاستدعاء حيث قال : كلفت من القائد بالتحقيق في أمر السجل العقاري ، ويهمني وأنا احد أعضاء القيادة التاريخية معرفة ما حدث بالضبط ، قبل الحرق ، وأثناء الحرق ، وبعد الحرق ، وقدم لنا شرحا لمهمة اللجنة فهمت منه أنه لا يعلم بهذه المؤامرة وأنه يريد معرفة الحقيقة ، كان أسلوبه جيدا ولطيفا جدا ، وعلى خلق عظيم. أعطيت لي الكلمة بينما أخذ المقدم منير في تسجيل المحضر ، انطلقت في الحديث عن هذه الجريمة ، وبدأت في سرد القصة من بدايتها إلى نهايتها ، لم أترك كبيرة ولا صغيرة إلا ذكرتها بالتفصيل دون تعليق على شيء ، فكان يتألم أحيانا ويذكر الله أحيانا أخرى ، فيقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، استمر حديثي ما يقارب الساعة الكاملة على ما أعتقد ، ولم يتكلم الأخ محمد الديب إلا قليلا ، لأنني أكثر إلماما منه بالموضوع ، وأحضرت معي بعض الأوراق ، منها المذكرة التي قمت بإعدادها والاقتراحات التي قدمناها ، وبالمناسبة أحضرت له معي نسخة من كتاب التوثيق العقاري لأنه يتضمن بعض الملاحق هي عبارة عن صور من بعض الوثائق التي يضمها التسجيل العقاري والتي استعنت بها في البحث ونشرت صورها في الكتاب ، وقصدي من ذلك التدليل على القيمة العلمية للسجل العقاري ووثائقه التي حرقت ، بعد اطلاعه على رسوم الوثائق خطرت لي فكرة كتابة إهداء له ، فكتبت كلمة صغيرة وأهديت له الكتاب فتقبله بالشكر ، وودعنا بحرارة ، وطلب منا إعداد تقرير كتابي حول عملية الحرق نقدمه فيما بعد .

    قمنا بإعداد التقرير الذي كان من إملائي وبخط الأستاذ محمد الديب ومذيل بتوقيعي ، يتكون من تسع صفحات ، مع أربع صفحات أخرى تتضمن النتائج التي ترتبت على حرق التسجيل العقاري ، وهي نتائج مباشرة ونتائج غير مباشرة ثم بعض الاقتراحات المطلوب القيام بها خلال تلك المرحلة ، التقرير مؤرخ في 14 ربيع الآخر 1395هـ الموافق 27 ديسمبر 1985 م ، وقد تم تسليم التقرير للأخ محمد الخضار ، تلقينا هدية من العميد مصطفى وهي عبارة عن ساعة يد لكل واحد منا ، مع تقديم الشكر والثناء ، تم استدعائي لوحدي بعد ذلك حيث سئلت عن أشياء تتعلق بالسجل العقاري ، ثم استأذنت في السفر للمغرب للالتحاق بالدراسة ، لأن كافة إجراءات أصبحت كاملة فأعطوني الإذن بذلك . غادرت أرض الوطن يوم 21 فبراير1986 م ، مصطحبا والدتي وزوجتي وأولادي السبعة ، وسكنت في حي السلام بمدينة سلا ، والتحقت بالجامعة مع لقاء الأستاذ المشرف الدكتور خالد عبد الله عيد ، ورتبت الأولاد في المدرسة الليبية بالرباط ، والحمد لله رب العالمين.


[ الهاجس الأمني هو الباعث على التحقيق ] 

     بعد انتهاء التحقيق علمنا بما لا يدعو مجالا للشك أن التحقيق الذي جرى معنا لا يقصد منه معاقبة من قاموا بعملية الحرق ، أو للتحقيق معهم وتقديمهم للعدالة بلل لتغطية الجانب الأمني فقط ، ذلك أن اللجنة الثورية بطرابلس عندما تحركت مساء يوم 16/11/1985 م وقامت بإخراج الأوراق من إدارة التسجيل العقاري وحرقها صباح اليوم التالي ، لم تصادف مقاومة أو معارضة من جهة أمنية ، والسؤال الذي طرح هو أنه إذا قامت أي مجموعة أخرى بفعل معين للتخريب فأين أجهزة الأمن التي يجب أن تكون ساهرة على أمور البلاد ، ولهذا أجرى التحقيق ولكن ما جاء في تقريري الذي ذكرت فيه أنه كادت أن تحدث مشادة بإطلاق النار بين رجال الشرطة واللجان الثورية صبيحة يوم 17/11/1985 م أنقدت الشرطة من المساءلة ، كما برئت ساحة أمين العدل على ما اعتقد ، ولم أدر بعد ذلك ما حدث لاستكمال التحقيق ومن تم استدعاؤه سوى أنني سمعت بأن عمار الطيف استدعي لأنه كان مسؤولا في الأمن الداخلي ، كما سمعت بأنه قام بتوجيه برقيات إلى بقية اللجان الثورية للإسراع في حرق بقية السجلات العقارية التي تقع في نطاق اختصاصها المكاني . 

[ نهاية قصة حرق السجل العقاري ] 

     هذه هي قصة حرق السجل العقاري في ليبيا منذ البداية إلى النهاية حسبما عشتها يوما بيوم ودقيقة بأخرى ، رويتها في هذه الوريقات خوفا من نسيانها ، وبعد مرور سنة ونصف على حدوثها ، وقصدي من ذلك هو أداء الشهادة التاريخية فقط ، لأنني لا أقصد الإهانة لأحد أو التشهير به ، أو إظهار عواره ، بل شهادة على العصر والخطأ الذي حدث أمام عني وسمعي ، والذي أشعر بمرارته إلى حد الآن ، إنني أقوم حاليا بإعداد أطروحة عن دور المحافظ العقاري في تحقيق الملكية ،دراسة مقارنة بين النظام العقاري في ليبيا والمغرب، وعندما أقوم بكتابة بعض الفصول أو الفروع في الأطروحة ، وأتذكر عملية حرق السجلات العقارية ،يتعثر قلمي ويشرد بي الذهن ، ولم أعد أدري ماذا أكتب فأمسك نفسي عن الكتابة ، وأقول لنفسي : ما عساني أفعل بهذه الدراسة فقد يأخذها غيرها ويلقي بها في النار ؟ ! ! مثلما حدث لرسالة الماجستير . ولكني أتوكل على الله تعالى ، وأتناسى ما حدث تاركا الأمر لله وحده ،فهو المسير والمسيطر على كل شيء ،ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، بعد وصولي إلى المغرب واستقراري فيه ، حضر الدكتور ميلود المهذبي إلى الرباط صحبة المهندس محمد هويدي أمين اللجنة الشعبية لبلدية طرابلس ، وقابلتهما في فندق حسان ، فطلب مني إعداد دراسة أو تصور أو اقتراحات بشأن كيفية إعادة العمل بإدارات التسجيل العقاري وتنظيمه من جديد ، لم يمنعني ما حدث من المساهمة ، ولن أرد السيئة بسيئة مثلها ، فأنا اكبر من ذلك ، قمت بإعداد مذكرة ضمنتها أراء واقتراحات عن كيفية العمل وإعادة التسجيل العقاري وضعت فيها خبرتي السابقة ودراساتي اللاحقة ، وخاصة بعد اطلاعي على نظام التحفيظ العقاري المغربي ، وطبعتها في السفارة الليبية وأرسلتها له في أمانة العدل بطرابلس وهي مؤرخة في 27/3/1986 م وبعد فترة تلقيت منه رسالة شكر عليها ، فحمدت الله على ذلك ، فالذي يهمني هو إرضاء ضميري ، وليس لي من هدف سوى خدمة وطني في المجال الذي أتقنه . كتب هذه الوريقات بخط يمينه ، العبد الفقير إلى ربه تعالى ، جمعة بن محمود بن المبروك بن محمد الزريقي المصراتي نسبا الطرابلسي مولدا ونشأة راجيا من الله سبحانه وتعالى المغفرة والرحمة وحسن الختام ، وراجيا ممن يعثر عليها أن يحفظها لما لها من فائدة ، وما بها من موعظة ، معتذرا عما وقع بها من أخطاء كتابية أو لغوية ، ووقع الفراغ منها يوم الأحد العاشر من شوال سنة ألف وأربعمائة وسبعة للهجرة ،1407هـ الموافق للسابع من شهر يونيه ( جوان ) سنة ألف وتسعمائة وسبعة وثمانين1987 م ، وتم تحريرها بحي السلام في مدينة سلا بالمملكة المغربية والحمد لله رب العالمين . 

 

 

[ ضياع هذه الوريقات ثم عودتها بسلام ]

       بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد النبي الأمين، وبعد ، فهذه الأوراق التي تحكي قصة حرق السجل العقاري في ليبيا كتبتها عندما كنت مقيما في المغرب الشقيق، وبعيد وصولي إلى هناك سنة1986 وبقيت لدي سنوات ، ثم استعارها مني الصديق الفاضل الأستاذ محمد مسعود جبران عندما كان يقيم في المغرب لغرض الدراسة العليا ، وذلك لغرض الاطلاع عليها ، وبقيت لديه هناك إلى الآن ، حيث عدت إلى طرابلس بعد أن أنهيت دراستي وناقشت أطروحتي ، فكانت عودتي مع نهاية سنة 1993 م .

     وفي هذه السنة 1984 أعادها لي الصديق العزيز وقد وجدت عليها تصويبات وتصحيحات لغوية وإملائية قام بها مشكورا ، جزاه الله عني كل خير ، فحرصت على تركها كما هي بأخطائها السابقة وتصحيحات زميلنا الفاضل عليها ، لأنها كتبت للتاريخ وستبقى للتاريخ ، والواقعة التاريخية يجب أن تقدم بصدق دون تغيير أو تزوير ولا تحوير ، ودون تجميل وتحسين ، والله على ما يشاء قدير ، ولا حول ولا قوة إلا الله العلي العظيم . والحمد لله الذي حفظ هذه الأوراق ، ولم يكن مصيرها كمصير أوراق السجل العقاري أو أكثر من ذلك ، فقد أخبرني الصديق العزيز أنه أحضر هذه الأوراق من المغرب في حقيبته الخاصة التي تضم إلى جانب هذه المذكرة بعض الأوراق المهمة والمذكرات الأخرى ، ثم سرقت منه الحقيبة التي تضم أيضا مبلغا ماليا ليس بالهين ، فتحسر عليها لما تضمه من مستندات لا فيما يتعلق بالمبلغ المالي ولحسن الحظ وسلامة النية وبركة الصديق ، أخبر بوجود الحقيبة بما فيها من أوراق دون المبلغ في مركز شرطة أبي سليم حيث تم العثور عليها فقاموا بتسليمها إليه ، ولم تطلع الشرطة على ما ورد بها ، فحمدا لله على كل حال ، وجزي الله صديقنا الأستاذ محمد مسعود جبران كل خير ، وحفظه الله ورعاه 7/5/1994 م .

      والآن وبعد مرور أكثر من ربع قرن على هذه الحادثة ، والحمد لله قد تمكنت من تدوين وقائعها في حينها بشيء من التفصيل خوفا من نسيانها ، فقد حان الوقت بعد أن انتهى النظام الفاسد الذي جثم على ليبيا مدة تزيد على أربعة عقود ، وكان حرق السجلات العقارية أحد جرائمه المرتكبة في حق البلاد والعباد ، إلى جانب ارتكاب الفساد وظلم العباد ، والتفرقة بين المواطنين ، وقتل المعارضين وسجنهم وتعذيبهم وسلب أملاكهم ، لذلك رأيت نشر هذه القصة كما كتبتها ، مع توضيح بعض المصادر التي تعزز ما ورد فيها ، وإصلاح بعض الأخطاء ، وإضافة ملاحق لم تكن متوفرة لدي أثناء كتابتها في المغرب خلال سنة 1987 م ، ويعلم الله تعالى أن ما قمت به في تلك الآونة كان القصد منه إبعاد عملية الحرق والحفاظ على السجلات العقارية كما حافظ عليها الذين تولوا هذا المرفق من قبلنا ، ولكن الحيلة أعيتنا أمام قوة الظلم التي شكلها ذلك النظام فهي التي كانت المسيطرة على ليبيا واليد الطولى التي كان رأس النظام السابق يعتمد عليها في تطبيق آرائه وترسيخ حكمه ، ولكن التاريخ لا يرحم فهما حاول الظالم أن يخفي جرائمه فلا لها من يوم تظهر فيه للعيان . والله على ما أقول شهيد .

     وأختم بقول الله تعالى:

     { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل (*) إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب عظيم } 

                        صدق الله العظيم

     الدكتور جمعة محمود الزريقي المستشار بالمحكمة العليا طرابلس الغرب في السادس عشر من رمضان المبارك 1433 هـ الموافق للرابع من شهر أغسطس 2012 م .